قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) :
قال ابن جرير بعد ذكره قصة أصحاب الأخدود : وإنما قلت ذلك أولى التأويلين بالصواب للذي ذكرنا عن الربيع من العلة : وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم ، ولو لم يكونوا أحرقوا في الدنيا لم يكن لقوله (ولهم عذاب الحريق) معنى مفهوم من إخباره أن لهم عذاب جهنم ، لأن عذاب جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابهما في الآخرة .
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) : أي حرقوهم بالنار ، فلهم عذاب جهنم لكفرهم ، ولهم الحريق في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار .
وقيل (جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين .
ذكر المفسر الألوسي نقلاً عن ابن جرير وغيره : إن الله بعض على المؤمنين ريحاً تقبض أرواحهم قبل الوصول إلى النار ، وأن النار خرجت فأحرقت الكفار الذين كانوا على حافتي الأخدود . ويدل لهذا قوله تعالى : ( قتل أصحاب الأخدود) ، وقوله تعالى : ( ولهم عذاب الحريق) .
من فوائد القصة :
كل مولود يولد على الفطرة ، فاقتضت الفطرة السليمة أن تكون مع الحق والخير دائماً وترفض الشر ، فوجهت الغلام نحو الخير حين سمع الحق من الراهب ونبذت الشر المتمثل في الساحر الكافر .
لا بأس بالكذب للنجاة من كيد الكافرين عند الضرورة .
علم الغلام بفطرته أن الحق مع الراهب ولكن أراد أن يقيم الحجة (مثل إبراهيم عليه السلام) حيث أقام الحجة على قومه .
الدعاء إلى الله أن يظهر له الحق ويبين له وجه الصواب ويقطع الشك باليقين ، وهذا شأن المؤمن يلجأ إلى الله دائماً لحل مشاكله .
إماطة الأذى عن الطريق وتخليص الناس من كرب وقعوا فيه ، مشروع ومطلوب يؤجر المسلم عليه ، كما صرحت بذلك الأحاديث .
المؤمن الصادق هو الذي ينسب فعل الكرامة إلى الله وليس إلى نفسه .
الاعتراف بالفضل ولو إلى غلام صغير : ( أي بني أنت اليوم أفضل مني) .
كل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وصدع بالحق لا بد من أن يبتلى ، وعليه بالصبر ، وله الأجر الكبير عند الله ، قال تعالى على لسان لقمان يوصي ولده (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .
كل من أخطأ في تعبيره لا يترك في خطئه ، بل يبين له وجه الصواب ، لا سيما في عقيدة التوحيد ، فالغلام يقول للوزير : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى ، وهذا مطابق لقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
إن لله رجالاً أقوياء بإيمانهم ، فمهما عذبوا لا يرجعون عن دينهم ، ولا يرضون الطغاة بكلمة فيها ضعف أو كفر ، ولو حرقوا ، أو نشروا أو أغرقوا وهو الأفضل وقد أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ، وقد سمح الله للمؤمن أن ينطق بالكفر إذا أكره عليه فقال سبحانه وتعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
لا بد لكلمة الحق أن تنتصر ، فالملك يعجز عن قتل الغلام ، ولا يتم له ذلك إلا بطريقة يرسمها الغلام للملك ، يعقبها إيمان الشعب وانحدار الملك ، ويتحقق قول الله تعالى : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
الغلام المؤمن يضحي بنفسه ليؤمن الناس ، وهذا شأن المؤمنين المخلصين يسعون لإنقاذ أمتهم ، ولو أدى ذلك إلى استشهادهم ، فهم إلى الجنة ذاهبون ، قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) .
يثبت الله المؤمنين بالحجج البينات ، ويؤيد دينهم بالكرامات ، فهذا هو الرضيع ينطق (يا أمه إصبري فإنك على الحق) . والأم تستجيب لهذا الأمر ، وتلقي بنفسها مع طفلها صابرة محتسبة .
مصير المؤمنين إلى الجنة بعد موتهم ، ومصير هؤلاء الكفار الحرق في الدنيا ، وعذاب جهنم في الآخرة .